ثورة البُراق

ثورة البُراق

  • ثورة البُراق

اخرى قبل 5 سنة

ثورة البُراق

البراق هو جزء من الحائط الغربي للحرم القدسي الشريف وقد كان ادعاء اليهود بملكيته سبباً في التوتر الذي نجمت عنه اضطرابات عنيفة في آب من عام 1929 بين العرب واليهود في القدس، وفي أنحاء عديدة من فلسطين وهو ما عرف بـ "ثورة البراق".

لا يوجد مكان على الأرض تتنازعه مشاعر المسلمين وأتباع اليهودية مثلما هو الحائط الغربي للحرم القدسي الشريف، فهو يمثل بالنسبة لليهود آخر ما تبقى من هيكل سليمان، الذي يهوي إليه فؤاد اليهودي منذ أن دمر الرومان الهيكل عام 70م وشتتوا عباده في كل اتجاه، وهو المكان الذي ركن إليه النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) البراق المجنح الذي حمله من مرقده في إسرائه ومعراجه إلى السماء مروراً ببيت المقدس. يسميه اليهود "حائط المبكى"- حائط البكاء على ما حل بهيكلهم وأسلافهم، ويسميه المسلمون "حائط البراق".

لأكثر من ألف عام، كان الحائط وما جاوره جزءاً من الحرم القدسي الشريف، وقفاً إسلامياً خالصاً، إلا أن اليهود وبعد محاولات متكررة، استطاعوا أن ينتزعوا من الباب العالي -السلطة العثمانية آنذاك- فَرَماناً يبيح لهم الصلاة عنده وإقامة شعائرهم أمامه، شريطة عدم الإخلال بالوضع القائم واستفزاز مشاعر غيرهم من الطوائف التي تسكن المكان.

حافظت سلطات الانتداب البريطاني، التي ورثت إدارة فلسطين بعد الثورة العربية الكبرى والحرب العالمية الأولى على الحالة القائمة في الأماكن المقدسة استناداً إلى المادة (12) من صك الانتداب، إلا أن اليهود أخذوا ومنذ انحسار السلطة العثمانية المسلمة، يقومون بمحاولات ترمي إلى تغيير الوضع القائم للأماكن المقدسة وكان مسعاهم في ذلك يهدف إلى تحقيق سيطرة يهودية طالما حلموا بها، على الحرم القدسي الشريف.

كانت المحاولات اليهودية الأولى في هذا السياق يوم 24/9/1928م حين جلبوا تجاوزاً للعرف معدات احتفالهم بيوم الغفران، ووضعوا ستاراً يفصل الرجال عن النساء ونفخوا في الأبواق، الأمر الذي أثار حفيظة المسلمين وهواجسهم ومخاوفهم واعتبروا ذلك مجرد مقدمة لاستملاك اليهود للمسجد الأقصى، فألفوا "جمعية حراس المسجد الأقصى" وقرروا الدفاع عن مكانهم المقدس، وكان ذلك بداية لاندلاع هبة البراق، التي شهدت أيام الأسبوع الأخير من آب(أغسطس) 1929م وقائعها الدامية.

كرر اليهود محاولاتهم بإحضار معدات للاحتفال عند حائط البراق يوم 14/8/1929م، فهاجمت جموع المسلمين ما حدا بسلطات الانتداب لأمر اليهود بنزع الستار الذي وضعوه تجاوزاً، فرفضوا الانصياع، وقامت جمهرة من الشباب اليهود بقيادة أقلية متطرفة قدموا من تل أبيب في اليوم التالي بمسيرة لم يسبق لها مثيل حتى ذلك الحين، عبروا شوارع القدس وحين وصلوا حائط المبكى/ البراق رفعوا العلم الصهيوني، وبدءوا بترديد النشيد القومي الصهيوني (الهاتكفا) وشتموا المسلمين.

في اليوم التالي، 16 آب 1929م (وصادف أن كان يوم المولد النبوي الشريف) انطلقت بعد صلاة الظهر من المسجد الأقصى تظاهرة عارمة سار فيها آلاف الغاضبين حتى حائط البراق. وهناك ألقى فيهم احد شيوخ الأقصى خطاباً حماسياً أجج المشاعر، فحطم المتظاهرون منضدة لليهود كانت على الرصيف وأحرقوا قصاصات كتبت عليها نذور وتمنيات وضعت في ثقوب الجدار، وتعذرت محاولات القائم بأعمال الحكومة لتهدئة الوضع ووقف التدهور بسبب غياب زعماء اليهود عن البلاد.

تفاقم الوضع في اليوم التالي 17 آب حين تحول شجار نشب بين شاب يهودي وآخر فلسطيني إلى عراك أسفر عن إصابة أحد عشر شاباً من الطرفين بجروح مختلفة، وحين وصلت قوة البوليس إلى المكان هاجمتها جمهرة اليهود فأصيب فلسطيني وأحد أفراد قوة البوليس بجروح خطيرة اعتدى بعدها اليهود على بيوت العرب في الأحياء المجاورة، وجرحوا بعض سكانها.

وفاة الشاب اليهودي الذي أصيب في شجار السابع عشر من الشهر أثارت اليهود فحولوا جنازته يوم 20 آب إلى تظاهرة سياسية صاخبة ضد الحكومة وضد الفلسطينيين على حد سواء، ما دفع الحكومة إلى استقدام عدد من المصفحات المرابطة في شرقي الأردن ووضعتها في مدينة الرملة، على الطريق بين تل أبيب والقدس تحسباً لتفاقم الأوضاع.

ويشكل حائط البراق الجزء الجنوبي من السور الغربي للحرم القدسي الشريف بطول حوالي (47 مترا وارتفاع حوالي 17 مترا)، ولم يتخذه اليهود مكانا للعبادة في أي وقت من الأوقات إلا بعد صدور وعد بلفور العام 1917، ولم يكن هذا الحائط جزءا من الهيكل اليهودي، ولكن التسامح الإسلامي هو الذي مكن اليهود من الوقوف أمامه، والبكاء على زواله، وزوال الدولة اليهودية قصيرة الأجل في العصور الغابرة.

وجاء في الموسوعة اليهودية الصادرة عام 1917، أن الحائط الغربي أصبح جزءاً من التقاليد الدينية اليهودية حوالي عام 1520 للميلاد نتيجة للهجرة اليهودية من إسبانيا وبعد الفتح العثماني عام 1517.

 وفي عهد الانتداب البريطاني على فلسطين زادت زيارات اليهود لهذا الحائط حتى شعر المسلمون بخطرهم، ووقعت ثورة البراق بتاريخ 23/8/1929م. استشهد فيها العشرات من المسلمين وقتل فيها عدد كبير من اليهود واتسعت حتى شاركت فيها عدد من المدن الفلسطينية وتمخضت الأحداث عن تشكيل لجنة دولية لتحديد حقوق المسلمين واليهود في حائط البراق وكانت اللجنة برئاسة وزير خارجية السويد الأسبق "أليل ولفغرن" وعضوية نائب رئيس محكمة العدل الدولية الأسبق السويسري "تشارلز بارد"، وبعد تحقيق قامت به هذه اللجنة، واستماعها إلى وجهتي النظر العربية والإسلامية، وضعت تقريراً في عام 1930، قدمته إلى عصبة الأمم المتحدة أيدت فيه حق المسلمين الذي لا شبهة فيه بملكية حائط البراق/ المبكى.

وفضلاً عن الاستعدادات العسكرية الميدانية، قامت الحكومة يوم 22 آب، بهدف التهدئة، بعقد اجتماع ضم ثلاثة من زعماء العرب البارزين وثلاثة من نظرائهم اليهود. وحسب تقرير المندوب السامي إلى وزير المستعمرات "كان الاجتماع وديا".. وتم الاتفاق على استئنافه في السادس والعشرين من آب إلا أن الود الذي ساد اجتماع زعماء العرب بزعماء اليهود في منزل المستر لوك، مندوب الحكومة كان صداه في الشارع الغليان والمشاعر الملتهبة والشكوك المتبادلة.

وكان نهار الثالث والعشرين من آب 1929 حاراً، لا يضاهي حرارته سوى سخونة مشاعر القرويين العرب الذين تدفقوا إلى القدس مسلحين بالهراوات والسيوف، وأصدر احد ضباط البوليس في أحد أحياء المدينة أمرا بتجريد القرويين من أسلحتهم إلا أن رئيسه سارع إلى إلغاء الأمر بحجة عدم وجود عدد كاف من البوليس البريطاني لتنفيذ هذا الأمر، وساهم هذا الإجراء في تمهيد الطريق أمام الأحداث لتتجه نحو ذروتها الدامية.

بعد أداء صلاة الجمعة هاجم العرب الضواحي التي يسكنها يهود، فكانت نيران البوليس البريطاني لهم بالمرصاد، وحلقت الطائرات في سماء المدينة، فيما تحركت السيارات المصفحة في مدينة الرملة نحو المدينة المقدسة، وسرعان ما عم الهدوء وخلت الشوارع في البلدة القديمة، وبين الفينة والفينة كان يسمع صدى إطلاق نار، حيث استمرت الغارات العربية على القرويين اليهود في مناطق تقع على بعد أميال من القدس.

عمت أخبار ما جرى في القدس أرجاء المدن والبلدات العربية فانطلقت الجماهير في مسيرات غاضبة اتجه بعضها في غارات على أحياء اليهود، وبعضها إلى مراكز حكومة الانتداب والبوليس البريطاني. ففي نابلس ونظراً لخلو المدينة من أحياء يهودية تشكل هدفا للغضب الشعبي، اتجهت الجماهير الساخطة إلى مركز للبوليس وقامت بمحاولات مستميتة لانتزاع سلاح القوة الشرطية هناك، فنشبت اضطرابات عنيفة بسبب إطلاق البوليس النار على الجمهور.

ونشبت اضطرابات في الحي القديم من حيفا تخللتها غارات على "هدار هاكرمل" ضاحية حيفا اليهودية الشهيرة.

في بيسان شن المتظاهرون العرب هجوماً على اليهود القاطنين في المدينة، وفي يافا أسفر غليان الشارع العربي عن شن هجمات عدة على مستعمرات يهودية، واستطاعت قوة من البوليس البريطاني أطلقت النار على الجمهور اليافاوي الغاضب صد هجوم على الحي اليهودي الواقع بين يافا وتل أبيب. إلا أن سكان هذا الحي هاجموا العرب وقتلوا ستة مواطنين على رأسهم إمام احد المساجد. ووقع هجوم يهودي آخر على مسجد عكاشة في القدس، وانتهكوا حرمة هذا المسجد القديم الذي ينظر إليه السلمون باحترام بالغ ودنسوا أضرحة الأنبياء التي يضمها.

وبلغت الأحداث ذروة عنفوانها في مدينة الخليل، فما أن وصلت أنباء ما جرى في القدس حتى قام المتظاهرون بمسيرات صاخبة، وهاجموا مدرسة يهودية وقتلوا شاباً فيها، وفي اليوم التالي هاجم عرب الخليل الحي اليهودي في المدينة ومنازل اليهود المتفرقة البعيدة عن مركز المدينة، وأسفرت الهجمات عن مقتل ما لا يقل عن ستين يهودياً وجرح أكثر من خمسين، وفي صفد هاجم العرب حياً يهودياً وقتلوا وجرحوا نحو خمسة وأربعين يهودياً، وأضرموا النار في عدة منازل وحوانيت تعود لليهود.

بعد أيام هزت فلسطين أخذت الأحوال تتجه نحو الهدوء، وأسفرت أحداث ثورة البراق وهي أول ثورة تشتعل في فلسطين ضد الوجودين الصهيوني والبريطاني عن سقوط 133 قتيلاً يهودياً وجرح 339 بينهم 198 إصابة خطيرة. فيما بلغ عدد القتلى العرب 116 وعدد الجرحى 232 جريحاً وذلك حسب (تقرير شو) الذي اعترف بان معظم إصابات العرب كانت على أيدي القوات البريطانية.

شكلت أحداث ثورة البراق تحولاً في العلاقات العربية البريطانية في فلسطين، ففي الوقت الذي اتجهت فيه احتجاجات سكان فلسطين العرب نحو الوجود اليهودي ونزعته التوسعية بالتحديد متفادية الاصطدام بالقوات البريطانية، سقط هؤلاء السكان ضحايا برصاص البوليس البريطاني الذي كان يشكل حماية منيعة لليهود. كما شكلت ثورة البراق نقطة تحول في سلوك حكومة الانتداب إزاء العرب، وبات العداء صريحاً يتجلى في ممارسات القمع الموجهة ضد العرب تحديداً. فعلى الرغم من أن تقرير لجنة شو عزا أسباب الإضرابات إلى خيبة أماني العرب السياسية والوطنية وخوفهم على مستقبلهم الاقتصادي وخشيتهم من سيطرة اليهود السياسية بسبب الهجرة اليهودية المتزايدة، إلا أن السلطات زجت في السجون بالكثير من النشطاء العرب وأصدرت المحاكم البريطانية في فلسطين أحكاماً بالإعدام على عشرين عربيا تحول الحكم فيما بعد إلى السجن المؤبد باستثناء ثلاثة منهم (عطا الزير ومحمد جمجوم وفؤاد حجازي) الذين واجهوا الشنق في سجن عكا يوم الثلاثاء 17 حزيران 1930 بشجاعة ورجولة خلدها الشاعر إبراهيم طوقان في رائعته الشعرية الثلاثاء الحمراء. أما اليهود فقد حكم على واحد منهم فقط بالإعدام ثم خفض إلى عشرة أعوام وأطلق سراحه بعدما لبث فترة يسيرة منها.

إضافة إلى ذلك أصدرت المحاكم أحكاماً مختلفة بالسجن على 800 عربي وفرضت على بعض المدن العربية غرامات باهظة تمت جبايتها بشتى أنواع الإرهاب والتعسف وذلك تطبيقاً لقانون العقوبات الجماعية وكان العرب وحدهم من تأثر بهذا القانون.

من ناحية أخرى أوصت لجنة شو بإرسال لجنة أخرى لتحديد الحقوق في حائط البراق ووافقت جمعية عصبة الأمم في 14/1/1930 على إرسال اللجنة. وقد خلصت اللجنة إلى عدة استنتاجات أهمها أن ملكية الحائط الغربي تعود للمسلمين وحدهم ولهم الحق وحدهم فيه لأنه يؤلف جزءاً لا يتجزأ من ساحة الحرم الشريف التي هي من أملاك الوقف، وتعود لهم أيضا ملكية الرصيف الكائن أمام الحائط وأمام المحلة المعروفة بحارة المغاربة المقابلة للحائط لأن ذلك الرصيف وقف.

 

التعليقات على خبر: ثورة البُراق

حمل التطبيق الأن